في الوطن والمواطَنة../ فاطمة الإيفريقي.
تانيد ميديا : *يضيق معنى الوطن، فيصير بحجم كرةٍ وصورةٍ فوتوغرافية وقميصٍ أحمرَ وهدفٍ في مرمى. يختنق صوتُ الوطن، فيصير صياحا نشازا وشعارا بلا صدى ولازمةَ نصرٍ في خاتمة أغنية شعبية. تضيع تفاصيل الوطن في سطحية الدلالات، وضجر التكرار، فيصير فقط، نشرةَ أخبار طويلة ويومَ عطلةٍ إضافيا لأيامنا المعطلة.
مفهوم الوطن في البلدان الديمقراطية هو تعاقد على قيم الحرية والعدالة والتعايش والمساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات. ومفهوم الوطن في وطني هو ضرب على الطبول ورقص بالأعلام وشعارات إقصائية وتخوينٌ للمُختلفين واستعراضٌ عددي للجماهير المبتهجة أمام الكاميرات الرسمية..
لا أدري لماذا ينسون وجودنا كمواطنين حين يوزعون بينهم ثروات الوطن؟ وكيف يتذكروننا فجأة حين يحتاجون إلى عرضٍ احتفالي لإثبات الشرعية؟ ولا أفهم كيف يطالبوننا وحدنا بهذه الخدمة الاستعراضية الصاخبة باسم الوطن، في الوقت الذي يُعْفى منها أبناء العائلات الكريمة؟!
ذاكرة أغلبيتنا من تلاميذ المداشر والقرى والأحياء الشعبية، لا تزال تحفظ صور الدرس الأول الذي يفرضه علينا حماة الوطن كاختبار إجباري لإثبات صفاء سريرتنا الوطنية. لن ننسى تفاصيل تلك التجربة الاحتفالية في استعراض وطنيتنا بحمل الأعلام والصور والهتاف الهستيري في المواكب الرسمية. فدرجةُ ولائنا كانت تقاس بمدى طاعتنا ونحن نساق كالقطيع في الحافلات لتأثيث رصيف الطرقات تحت الشمس الحارقة. ولما يمر الموكب الرسمي كالحلم ونلوح له من بعيد بأيادينا الصغيرة، يختفي الوطن وتختفي الحافلات، وينسى رجال السلطة وجودنا، ونعود مشيا على الأقدام لواقعنا البئيس وحصتنا الجغرافية الضيقة جدا في خريطة الوطن.
هكذا كان التعبير عن الانتماء للوطن، وهذا هو المعنى الوحيد والمبتذل للمواطنة، باقي التفاصيل الأساسية للدلالة على مفهوم الوطن من مساواة وكرامة وحقوق، كانت مجرد حشو للمعنى وبدع غربية دخيلة تتنافى مع ثوابتنا المقدسة. والمهووسون بتقفي أثرها ليتجلى المدلول الحقيقي للمواطنة، كان مصيرهم زنزانة ضيقة في سجون الوطن.
بين الأمس واليوم، ماذا تغير؟ ربما صقلنا حروف الوطن لتبدو لامعة في واجهة دستور شكلي، لكن بقي المعنى. المعنى السطحيُّ نفسُه، الصورُ النمطية نفسُها، الهتافاتُ الصاخبة والشعاراتُ الجوفاء والشهب الاصطناعية والغبارُ المتصاعد، والمشهدُ نفسُه تعيده الشاشات بالتعليق نفسه بتواريخ مختلفة.